فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}
ويستهل الحق تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة بنداء الإيمان، ثم يضع شرطًا هو: {إِن تَتَّقُواْ الله}، ويكون جواب الشرط أن يجعل لنا فرقانًا، ويكفر عنا السيئات، ويغفر لنا وسبحانه هو الكريم وصاحب الفضل العظيم.
والمراد بالتقوى هنا أن تكون التزاما بالأحكام؛ وقمة الالتزام بالأحكام هي الإيمان بالله عز وجل، وإذا وجد الاثنان؛ الإيمان بالله والالتزام بالأحكام، لابد أن يتحقق وعد الله المتنثل في قوله تعالى: {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم} [الأنفال: 29].
والفرقان من مادة فرق الفاء والراء والقاف وتأتي دائمًا للفصل بين شيئين، مثلما ضرب موسى البحر بعصاه فكان كل فِرْق كالطود العظيم. وسبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50].
أي نزع الله سبحانه الاتصال بين متصلين فصار بينهما فرق كبير.
وافرض- على سبيل المثال- أنك أحضرت ثوبًا من قماشٍ مُتَساوٍ في النسيج واللون، ثم شققت من الثوب جزءًا منه؛ هنا لا يقال إنك فرقت بين القطعتين، بل فصلت بينهما، لكن لا يقال فِرْق إلا إذا كان الفصل يؤدي إلى فرقتين؛ فِرقة هنا، وفِرقة هناك وهذه أشياء ومتعلقات، وتلك لها أشياء ومتعلقات.
إذن فالفرق ليس هو الفصل بين متلاحمين فقط، بل هو فصل يؤدي إلى أن يكون لكل فرقة منهج، ومذهب، ورأي.
و{يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} أي يفصل بين شيئين لم يكن يوجد بينهما اتفاق؛ لأنه لو كان بينهما اتفاق لصارا فرقة واحدة، لكن لأنهما مختلفات لذلك لابد من وجود تناقض بينهما. وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: إنه يجعل لكم فرقانًا، مثال ذلك، هناك من يهتدي، وهناك من يضل. وبطبيعة الحال يوجد فرق بين الهدى وبين الضلال. فالله شرح صدر المتهدي للإسلام، وجعل صدر الكافر ضيقًا حرجا؛ فيه غل وحقد وحسد ومكر، وخديعة؛ لذلك يفصل ربنا بين من بقلبه طمأنينة الإيمان وبين من يمتلئ صدره بالضغينة، فالمؤمن من فرقة تختلف عن فرقة أصحاب القلوب الحقودة.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29].
أي أنه سبحانه وتعالى يفصل بينكم أو يفصل بين عموم الحق وعموم الباطل؛ لأنه يريد أن تكون حركة الحياة وحدة متكاملة منسجمة، لا يسودها هوى جماعة ضد جماعة لها هوى آخر؛ لأنهم كلهم خلفاء لله في الأرض، وكلهم مخلوقون لله، وكلهم متمتعون بخيرات الله؛ لذلك يجب أن تكون حركاتهم متساندة ومتناسقة غير متعاندة.
والتفرق- كما نعلم- إنما ينشأ عن اشتباك؛ بين فريقين اثنين، واحد منهما يمثل فريق الهدى، والثاني هو من حق عليه عذاب الله.
{إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29].
ويتمثل الفرقان في هدى القلب، والبصيرة والعلم؛ وأي شيء يفصل بين الحق والباطل، وأحوال الإنسان- كما نعلم- قسمان: أحوال الدنيا، وأحوال الآخرة، وأحوال الدنيا فيها أمور قلبية مستترة، وفيها أمور ظاهرة، وإن نظرنا إلى حالات الدنيا نجد منها الظاهر وهو الحركة المحسة، ومنها القلبي الذي لا يعرفه من بعد الله إلا صاحب القلب. والفرقان في أحوال الدنيا القلبية تلمسه حين تجد من اهتدى، ومن ضل؛ ونجد أن المهتدي قد شرح ربنا صدره للإسلام. ونجد أن الضال هو من لم يشرح الله صدره للإسلام والمهتدي يعيش ضمن الفريق الذي لا غل فيه ولا حقد، والضال هو من يعيش في فريق يتصف بالغل والحقد، هذا في الأمور القلبية. أما في الأعمال الظاهرة، فالحق يجعل الفرقان بين أهل الإيمان وأهل الكفر؛ بالنصر، والغلبة، والعزة.
وماذا عن الفرقان في الآخرة؟.
إن الحق يجعل الفرقان في الآخرة بحيث يكون لأهل الإيمان النعيم المقيم والثواب العظيم، ويجعل لأهل الكفر العذاب الشديد والمقت الكبير.
{إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: 29].
وإذا كنا سنتقي الله فهل سيكون لنا سيئات؟.
وأقول: إن أردت بقوله: {إِن تَتَّقُواْ الله} إيمانًا به، فسبحانه يُكَفِّر عنكم سيئاتكم؛ صغائرها وكبائرها. ولا يضر مع الإيمان معصية، بل تدخل في عفو الله وغفرانه.
وإن أردت بالتقوى التزام أمر فتكفير السيئات يعني أن نتقي الله بترك الكبائر فيكفر عنا السيئات وهي الصغائر. والتكفير على نوعين؛ أولا أن يسترها عليك في الدنيا، أو يذهب عنك عقوبة الآخرة، ولذلك يقول سبحانه في ختام جميل للآية:
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم} [الأنفال: 29].
وحين يوصف الفضل بأنه عظيم، فمعنى ذلك أنَّ هناك فَضْلًا أقل من عظيم، كما أن هناك فَضْلًا يعلوه تميزًا. نعم، ونعلم أن التفاضل موجود عند البشر؛ هذا يتفضل على هذا بطعام، أو يتفضل عليه بِمَلْبَس، أو يتفضل عليه بشراب، أو يتفضل عليه بمسكن، أي أن هناك أنواعًا متعددة من الفضل، لكنها لا توصف بالعظمة؛ لأن الفضل العظيم يكون من الله تعالى فقط لأنه سيئول إليه كل فضل من دونه، فمن أعطى آخر رغيف خبز فلنعلم أن وراءه من أحضر الخبز من المخبز، ووراءه من جاء بالدقيق من المطحن، ووراءه من زرع وحصد.
إذن كل فضل هو من الله ومآله مردود إلى الله عز وجل، وهذا هو الفضل العظيم. وأيضًا نجد أن الذي يتفضل على واحد لابد أنه يبغي من وراء هذا الفضل شيئًا، مثل كمال الذات، وأنه يود الحمد والثناء، ويبغي راحة نفس إنسانية، ونرى أناسًا يؤدون الفضل لغيرهم ليقللوا من آلامهم، لا لأنهم يطبقون منهج الله، بل يرغبون في مجرد راحة النفس، مثل الكفار الذين يصنعون أشياء تفيد الناس، فهم يفعلونها وليس في بالهم الله، بل في بالهم راحة النفس وانسجامها.
إذن فالذي يتفضل إنما يريد شيئًا، إما كمال مال أو ثناء وإطراء، وراحة نفس من مناظر الإيلام التي يراها، وهذا دليل على أنه يعاني من نقص ما ويريد أن يكمله. فإذا كان الله عز وجل هو صاحب الفضل، ألله نقص في كمال؟! لا. إذن فهذا هو الفضل العظيم ويمنحه لعباده تفضلًا منه دون رغبة في كمال أو ثناء، وأيضًا فكل فضل من دون الله يتضمّن المنّ، لكن فضل الله تعالى ليس فيه منّ وليس فيه ذِلة لأحد. وقد يستنكف إنسان أن يأخذ شيئا من إنسان آخر. لكن من الذي يستنكف على فضل الله؟. لا أحد. لأنَّ الحياة كلها هبة منه، ولذلك يُضرب المثل بالفتاة التي قالت لمعن بن زائدة:
فَعُدْ إنَّ الكريَم له معاد ** وظنِّي بِابْن أروى أن يعودا

وكانت الفتاة تطالب ابن زائدة أن يعود إلى التفضل عليهم، فنهرها أبوها، فقالت له: يا أبي إن الملوك لا يُسْتَحَى من الطلب منهم.
{والله ذُو الفضل العظيم} [الأنفال: 29].
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن تنتبه إلى أن كل مظهر من مظاهر وجودك في الحياة ومظاهر استبقاء حياتك، ومظاهر نعيمك كلها، إن نسبتها فستصل إلى الله، فإن كنت تشتري- على سبيل المثال- أثاثًا لبيتك، واخْتَرت خَشَب الورد ليكون هو الخشب الذي يصنع لك منه النجار هذا الأثاث، فأنت تأتي بهذا الخشب من أندونيسيا أو باكستان مثلًا؛ لأن الغابات هناك تنتج مثل هذا النوع من الخشب، وكل شيء في حياتك إن سلسلته ستجد أن أيدي المخلوقات من البشر تنتهي عند خلق لله وهبه للإنسان، وهذا هو الفضل العظيم من الله تبارك وتعالى.
وبعد أن أوضح الحق سبحانه وتعالى بهذا التوجيه: لا تخونوا الله، ولا تخونوا الرسول، ولا تخونوا أماناتكم، من أجل أولادكم أو أزواجكم، واعلموا أن مرد كل الفضل إلى الله تعالى، واذكروا واقع الدنيا معكم، أصدقت هذه المسائل أم لم تصدق؟ لقد صدقت كلها، كما قال الحق سبحانه وتعالى من قبل: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} [الأنفال: 26].
وكان هذا القول بالنسبة للمسلمين، فماذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟. هنا يقول المولى سبحانه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ...}. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}
يُقَالُ دَعَاهُ فَأَجَابَهُ وَاسْتَجَابَهُ وَاسْتَجَابَ لَهُ، وَكَثُرَ الْمُتَعَدِّي فِي التَّنْزِيلِ، وَيَقُولُ الرَّاغِبُ: إِنَّ أَصْلَ الِاسْتِجَابَةِ التَّهَيُّؤُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْإِجَابَةِ فَحَلَّ مَحَلَّهَا، أَقُولُ: وَالْأَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ قَلْبُ هَذَا وَعَكْسُهُ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ هِيَ الْإِجَابَةُ بِعِنَايَةٍ وَاسْتِعْدَادٍ، فَتَكُونُ زِيَادَةُ السِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ يَقْرُبُ مِمَّا قَالُوهُ فِي مَعَانِيهِمَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّحَرِّي أَوْ هُوَ بِعَيْنِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ فِيمَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [3: 195] فَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} مَعْنَاهُ إِذَا عَلِمْتُمْ مَا فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ، وَشَأْنُ سَمَاعِ التَّفَقُّهِ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَقَدْ دَعَاكُمُ الرَّسُولُ بِالتَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ تَعَالَى لِمَا يُحْيِيكُمْ، فَأَجِيبُوا الدَّعْوَةَ بِعِنَايَةٍ وَهِمَّةٍ، وَعَزِيمَةٍ وَقُوَّةٍ، فَهُوَ كَقوله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [2: 63] وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ هُنَا حَيَاةُ الْعِلْمِ بِاللهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَأَحْكَامِ شَرْعِهِ وَالْحِكْمَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَكْمُلُ بِهَا الْفِطْرَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي الدُّنْيَا، وَتَسْتَعِدُّ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ هُنَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ- وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجِهَادَ يَدْخُلُ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ هُوَ الْحَيَاةَ الْمَطْلُوبَةَ، بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ لِتَحَقُّقِهَا وَسِيَاجٌ لَهَا بَعْدَ حُصُولِهَا، وَقِيلَ: هِيَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ يَتَجَدَّدُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَثَمَرَتُهُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَبِمَا فِي الِاسْتِجَابَةِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ، وَإِلَّا فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: هِيَ الْقُرْآنُ، وَلَاشَكَّ أَنَّهُ يَنْبُوعُهَا الْأَعْظَمُ، الْهَادِي إِلَى سَبِيلِهَا الْأَقْوَمِ، مَعَ بَيَانِهِ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ وَهَدْيِهِ الَّذِي أَمَرَنَا بِأَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اقْتِرَانُ طَاعَتِهِ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا دَعَا شَخْصًا وَهُوَ يُصَلِّي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ اسْتِجَابَةً لَهُ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِإِجَابَتِهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا كَانَ صَلَّى وَيُتِمَّ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ- أَوْ قَالَ: فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ؟ الْحَدِيثَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ» أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَذَكَرَ نَحْوًا مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي بَابِ فَضَائِلِ الْفَاتِحَةِ مِنَ الْفَتْحِ عِنْدَ ذِكْرِ فِقْهِ الْحَدِيثِ: وَفِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاتَبَ الصَّحَابِيَّ عَلَى تَأْخِيرِ إِجَابَتِهِ، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ حُكْمَ لَفْظِ الْعُمُومِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى جَمِيعِ مُقْتَضَاهُ، وَأَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إِذَا تَقَابَلَا كَانَ الْعَامُّ مُنَزَّلًا عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْعُمُومِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهَا إِجَابَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ (وَفِيهِ) أَنَّ إِجَابَةَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ- هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ إِجَابَتُهُ وَاجِبَةً مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَاطَبُ مُصَلِّيًا أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ، أَمَّا كَوْنُهُ يَخْرُجُ لِإِجَابَتِهِ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ لَا يَخْرُجُ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الْإِجَابَةُ، وَلَوْ خَرَجَ الْمُجِيبُ مِنَ الصَّلَاةِ وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى آخِرِ مَا أَوْرَدَهُ، وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِمَا يَدْعُو الْمَرْءَ إِلَيْهِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ لِمَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا سَعِيدًا هَذَا لِيُعَلِّمَهُ فَضْلَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَفِي مَتْنِ الْحَدِيثِ شَيْءٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَلٌ.
وَأَحَقُّ مِنْ هَذَا بِالْبَيَانِ أَنَّ طَاعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبَةٌ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ دَعَا إِلَيْهِ دَعْوَةً عَامَّةً مِنْ أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، كَبَيَانِهِ لِصِفَةِ الصَّلَوَاتِ وَعَدَدِهَا وَالْمَنَاسِكِ وَلَوْ بِالْفِعْلِ، مَعَ قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَمَقَادِيرِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ الْعَمَلِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَكَذَا أَقْوَالُهُ الْمُتَوَاتِرَةُ الَّتِي أُمِرَ بِتَبْلِيغِهَا فِيمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً- وَأَمَّا غَيْرُ الْقَطْعِيِّ رِوَايَةً وَدَلَالَةً مِنْ سُنَنِهِ فَهُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، فَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا بِبَحْثِهِ أَوْ بَحْثِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَمْرِ الدِّينِ، فَيَنْبَغِي لَهُ الِاهْتِدَاءُ بِهِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ بِحَسَبِهَا- الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالْحُرْمَةُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِبَاحَةُ-؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ الِاجْتِهَادِيَّةَ يُكْتَفَى فِيهَا بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ فِي الدَّلِيلِ وَفِي دَلَالَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْعَلَ اجْتِهَادَهُ تَشْرِيعًا عَامًّا يُلْزِمُهُ غَيْرَهُ أَوْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ مُخَالَفَتَهُ أَوْ مُخَالَفَةَ مَنْ قَلَّدَهُ هُوَ فِيهِ، إِلَّا الْأَئِمَّةَ أُولِي الْأَمْرِ، فَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ إِذَا حَكَمُوا بِهَا لِإِقَامَةِ الشَّرْعِ وَصِيَانَةِ النِّظَامِ الْعَامِّ- وَعَلَى هَذَا كُلِّهِ جَرَى السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا، وَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا مُعَيَّنًا فِي دِينِهِ، وَلَكِنْ مَنْ عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ يَسْتَفْتِي فِيهِ مَنْ يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ لِعِلْمِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَأْخُذُ بِفَتْوَاهُ إِذَا اطْمَأَنَّ لَهَا. وَقَدِ امْتَنَعَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مِنْ إِجَابَةِ الْمَنْصُورِ ثُمَّ الرَّشِيدِ إِلَى مَا عَرَضَاهُ عَلَيْهِ مِنْ إِلْزَامِ النَّاسِ الْعَمَلَ بِكُتُبِهِ، حَتَّى الْمُوَطَّأِ الَّذِي هُوَ سُنَنٌ وَاطَأَهُ جُلُّ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهَا.
أَمَّا مَنْ يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَتْ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي عَهْدِهِ، وَلَا يُجِبُ الْعَمَلُ بَعْدَهُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ، فَهُمْ زَنَادِقَةٌ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ يُرِيدُونَ هَدْمَ الْإِسْلَامِ بِدَعْوَى الْإِسْلَامِ، بَلْ تَجِبُ طَاعَةُ الرَّسُولِ كَمَا أَطْلَقَهَا اللهُ تَعَالَى، وَيَجِبُ التَّأَسِّي بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّنَا نَهْتَدِي بِخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَأَئِمَّةِ أَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَعُلَمَاءِ أَصْحَابِهِ الْعَامِلِينَ، وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ، يُهْتَدَى بِهِمْ فِي آدَابِهِمْ وَاجْتِهَادَاتِهِمُ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَلَا نُسَمِّي شَيْئًا مِنْهَا دِينًا نَدِينُ لِلَّهِ بِهِ إِلَّا مَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَأَمَّا السُّنَنُ وَالْإِرْشَادَاتُ النَّبَوِيَّةُ فِي أُمُورِ الْعَادَاتِ كَاللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنَّوْمِ فَلَمْ يَعُدَّهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا عُلَمَاءِ الْخَلَفِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَتَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْهَا دِينًا بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ تَعَالَى، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ مَقَالَاتِ الْمَنَارِ.